آخر تحديث للموقع : الإثنين - 04 أغسطس 2025 - 10:59 م

كتابات


سيكوبوليتيكا: السياسة بين الوهم والوعي"

الإثنين - 04 أغسطس 2025 - 10:54 م بتوقيت عدن

سيكوبوليتيكا: السياسة بين الوهم والوعي"

نبا نيوز /مريم العفيف


حين تقرأها كـ (محلل نفسي):
حين أنظر إلى السياسة بعين التحليل النفسي، أراها مسرحًا هائلًا تتقاطع فيه دوافع البشر، من حب السلطة، إلى الخوف، إلى الطموح، إلى النرجسية. هي ليست فقط مؤسسات وأحزاب ونظم، بل شبكة معقدة من الاحتياجات النفسية والصراعات الداخلية التي تتحول إلى قرارات وقوانين وتحالفات. في السياسة، لا يتحرك القادة فقط بخطط مدروسة، بل أحيانًا بأشباح طفولتهم، بمخاوفهم الدفينة، وبأحلام لم يُمنحوا فرصة تحقيقها إلا عبر رقعة الحكم.

حين تقرأها كـ (مفكر سياسي):
أما من موقع التحليل السياسي، فإن السياسة لطالما وُصفت بأنها "فن الممكن"، أو "معترك المصالح"، أو "ساحة الحرب الباردة والحامية". لكن خلف هذا التصنيف المألوف، تكمن أسئلة فلسفية أكثر عمقًا: ما غاية السياسة حقًا؟ هل هي وسيلة لتنظيم المجتمعات وحماية الكرامة الإنسانية؟ أم أنها، كما تُمارس غالبًا، أداة للهيمنة والتسلط؟ وهل الفجوة بين المفهوم النظري والممارسة الواقعية قدر لا مفر منه، أم خلل في الإدراك والتطبيق؟

السياسة: المفهوم الفلسفي والمنطقي :
في الفلسفة، وخصوصًا لدى أفلاطون وأرسطو، كانت السياسة جوهر تنظيم المدينة الفاضلة. هي أداة لتحقيق العدالة والتوازن، واستمدت مشروعيتها من العقل والمنطق وخدمة الصالح العام. أما عند الفلاسفة المعاصرين، فتوسعت النظرة لتشمل الحريات، والعدالة الاجتماعية، والمشاركة، والمساءلة. السياسة - في جوهرها الفلسفي - هي عقد أخلاقي، ومجال للارتقاء الإنساني، وليست مجرد ساحة صراع سلطوي.

في المنطق، السياسة تعني اتخاذ قرارات مدروسة قائمة على موازنة المصالح، وفهم التعقيدات الاجتماعية والاقتصادية والنفسية، وليست مجرد ردود أفعال أو طموحات غير منضبطة.

السياسة كما تُمارس: الواقع والمفارقات:
لكن حين ننتقل من التنظير إلى الواقع، نصطدم بالمفارقة الكبرى. فالسياسة في معظم دول العالم، وخصوصًا في العالم الثالث، تتحول إلى ما يشبه حلبة صراع بدائي، حيث الغلبة للأقوى، لا للأعدل، وتُختزل الدولة في شخص الزعيم، والمجتمع في قبيلة أو طائفة، والمستقبل في صفقة سياسية مؤقتة. تُغتال الفكرة النبيلة، ويتراجع المنطق، وتحل مكانهما أدوات التضليل، والمال السياسي، والولاءات العابرة.
هذا الواقع يولّد صدمة لدى الوعي الجمعي. فالمواطن البسيط الذي تعلّم أن السياسة إدارة راقية للمجتمع، يراها تتحول إلى بازار للمساومات، مما يؤدي إلى فقدان الثقة، وانتشار السخرية السياسية، وتحول الشعوب إلى جمهور يائس لا فاعل مشارك.

علم النفس والسياسة: علاقات خفية ومباشرة :
علم النفس لا يقف بعيدًا عن هذا المشهد، بل يتغلغل في عمق السياسة، دون أن يُفصح عن نفسه دائمًا. القادة – سواءً ديكتاتوريين أو ديمقراطيين – تحكمهم سماتهم الشخصية، من اضطرابات النرجسية، إلى ميول السادية، أو حتى الهوس بالخلاص الجمعي. والجماهير أيضًا تخضع لآليات نفسية معقدة، مثل "الهوية الجمعية"، و"العدو المشترك"، و"الإسقاط"، و"التبعية العاطفية".

علاقة السياسة بعلم النفس تظهر في:

صناعة الزعيم: حيث تُبنى صورته عبر الحاجة النفسية للجماهير إلى بطل/منقذ.

الحملات الانتخابية: التي تُخاطب العاطفة لا العقل، وتُفعّل "غريزة القطيع".

صناعة العدو: لتوجيه الغضب الجماعي بعيدًا عن مشكلات الداخل.

القرارات الكبرى: التي قد تُتخذ تحت ضغط نفسي، أو بدافع الانتقام، لا المصلحة العامة.

من الفوضى إلى الوعي: نحو سياسة إنسانية :
إذا كانت السياسة قد حادت عن معناها الفلسفي وتورطت في معارك النفوس والغرائز، فإن الحل لا يكمن فقط في تغيير القادة أو النظم، بل في إعادة تعريف السياسة في وعي الشعوب. نحتاج إلى سياسة تُبنى على العقلانية، والعدالة، والتوازن النفسي، لا على الخوف والتبعية والتضليل.
السياسة ليست حلبة صراع دامٍ، بل مساحة اتفاق واختلاف راقٍ، هدفها حماية الإنسان، لا استغلاله. هي فن إصلاح الممكن، لا فرض المستحيل. ولكي تعود السياسة إلى معناها النبيل، علينا أن نُربّي أجيالًا تدرك العلاقة بين النفس والفكرة، بين الحرية والمسؤولية، بين الزعيم والمواطن.

علم النفس السياسي: قراءة داخل عقل الدولة وعقل الجماهير:
نشأ علم النفس السياسي باعتباره فرعًا معرفيًا عابرًا للتخصصات، يجمع بين علم النفس والعلوم السياسية، ليفكك السلوك السياسي من منظور سيكولوجي. هذا العلم لا يدرس الأنظمة فحسب، بل يغوص في أعماق الشخصيات السياسية، والسلوك الجماهيري، والتفاعلات الاجتماعية التي تُنتج القرار السياسي وتُعيد تشكيل الوعي العام.

علم النفس السياسي يحاول الإجابة على أسئلة جوهرية مثل:
لماذا يصوّت الناس ضد مصالحهم أحيانًا؟
كيف تُبنى صورة الزعيم في مخيلة الجماهير؟
ما الذي يجعل بعض المجتمعات أكثر تقبّلًا للأنظمة الشمولية؟
ولماذا تُستخدم "الهوية الجمعية" في الصراعات السياسية كسلاح تعبئة؟

كما يُعنى هذا العلم بفهم:
اللاوعي السياسي: أي ما يخفيه الخطاب السياسي خلف الكلمات، وما تُضمره الشعارات.
التحليل النفسي للسلطة: كيف تتغذى السلطة على مخاوف القائد ونزعاته، وعلى احتياجات الجمهور وتاريخهم العاطفي مع الدولة.
تفسير ظواهر الطاعة والخضوع: كما في تجربة ميلغرام، التي أظهرت استعداد الأفراد لطاعة الأوامر حتى إن خالفت ضمائرهم، بمجرد أن تأتي من سلطة "شرعية".
ويُكمل هذا المشهد ما يُعرف بـ علم النفس الجماهيري، الذي يشرح كيف تنتقل العدوى النفسية في الحشود، وكيف تعمل رموز السياسة (مثل العلم، النشيد، صور القادة) على خلق شعور بالانتماء والسيطرة.
بالتالي، فالسياسة ليست مجرد قرارات فوقية، بل هي تفاعلات نفسية جماعية، تُنظَّم وتُوجَّه إما نحو الوعي والتحرر، أو نحو الهيمنة والتخدير.

أهمية علم النفس في الواقع السياسي: من يصنع من؟
في خضم التحليل العميق للواقع السياسي، تبرز أهمية علم النفس كأداة تفسير وتحليل لا غنى عنها، بل وكمحرك خفي يسكن تحت سطح الخطابات والقرارات والتحالفات. علم النفس لا يكتفي برصد الظواهر، بل يفكك السلوك السياسي من الداخل: من دوافع الأفراد، إلى مزاج الجماهير، إلى اضطرابات القادة، إلى العوامل النفسية التي تحدد مآلات الأحداث الكبرى.

يُضفي علم النفس على السياسة العمق الإنساني الذي تفتقر إليه المقاربات الباردة أو البيروقراطية. فهو يُعرّي الأقنعة، ويكشف ما وراء الشعارات، ويُفسر التحولات الجذرية التي تُصيب المجتمعات في أزمنة الأزمات والانهيارات.

وفي هذا السياق، لا يمكن الجزم أيّهما أكثر أهمية: علم النفس أم علم السياسة؟
فمن دون السياسة، يبقى علم النفس حبيس الذات والفرد.
ومن دون علم النفس، تغدو السياسة آلة صمّاء لا تقرأ الروح ولا تدرك دوافع السلوك.

لكن يمكن القول إن علم النفس يسبق السياسة زمنيًا وبنيويًا، لأنه يُشكّل أرضية الفهم الأولية التي يقوم عليها الوعي السياسي. فقبل أن ينتمي الإنسان إلى حزب أو أمة أو إيديولوجيا، هو يحمل تركيبة نفسية، وصراعات داخلية، وشحنات عاطفية تؤثر في خياراته.

بالتالي، السياسة هي التجلي الخارجي لنظام نفسي داخلي. وكل إصلاح سياسي حقيقي لا بد أن يُبنى على فهم عميق للنفس الفردية والجماعية.

الخاتمة:
السياسة، في جوهرها الحقيقي، ليست "حربًا بلا دماء" كما تُصوَّر، بل مسؤولية ثقيلة تحتاج إلى نُضج عقلي، واتزان نفسي، ورؤية فلسفية تتجاوز اللحظة. حين نفهم السياسة كامتداد للنفس البشرية بكل تناقضاتها، نستطيع أن نعيد لها روحها الضائعة. وحين نُعيد إليها معناها الإنساني، نصنع من ساحة الصراع فضاءً للوعي والبناء.
هي ليست ميدانًا للغلبة، بل مرآة تعكس مدى تطورنا كأفراد ومجتمعات.
فلنجعل من السياسة فنًّا لارتقاء الإنسان، لا وسيلة لتحطيمه.