آخر تحديث للموقع : الخميس - 14 أغسطس 2025 - 04:08 م

كتابات


من المدينة المريمية إلى رابيندرانات

الأربعاء - 13 أغسطس 2025 - 10:26 م بتوقيت عدن

من المدينة المريمية إلى رابيندرانات

نبا نيوز / د.مريم العفيف


طاغور العزيز… تحية بعبق وافر المحاولة لمجابهة العتمة التي كادت تصب الشغف بمقتل 

لقد مكنت عقلياتهم أدواتهم من إطفاء الضوء الذي كان في الزاوية ها هنا، ذاك القبس أيضًا على المقصلة. لم يكن القتل فجأة، بل كان انسلالًا بطيئًا مثل برد يتسلل إلى العظام، حتى لم يعد فينا من دفء الروح ما يكفي لمقاومة الظلام. لم يكن النور الذي أطفؤوه ضوء مصباح أو شعلة شمعة، بل كان بقايا ما نحتفظ به من قدرة على الحلم.

في المدينة المريمية، حيث كنا نظن أن الملائكة تحرس الأرصفة، صار الظل سيد الأزقة، والليل لا يرحل إلا ليترك نهارًا باهتًا لا يسعفه إلا ذكرى الفجر. لقد كبر الخوف فينا، حتى صرنا نحمل المفاتيح كأنها أصفاد، ونغلق النوافذ ليس حماية من البرد، بل من العيون التي تفتش عن شرارة عصيان.

أتعلم يا طاغور؟ لم يكتفوا بإطفاء القنديل في الزاوية، بل اقتلعوا الحجر الذي كان يستند إليه، حتى لا يبقى أثر يمكن أن يوحي بأنه كان هنا يومًا. لقد علّموا الظلام كيف يتكاثر، وزرعوه في الكلمات حتى صارت الجمل تنتهي قبل أن تبلغ المعنى، وفي الألوان حتى صارت اللوحات تكتفي بظل بلا ملامح.

يقولون لنا إن هذا هو قدر المدينة، وإننا نحن من أطفأ النور بإهمالنا، لكننا نعرف أن الحقيقة غير ذلك: النور لم يخننا، بل خُنّا نحن حين سلمناه لأيدٍ لم تكن تعرف قيمته. حين آمنّا أن العقل وحده يكفي، فاكتشفنا متأخرين أن العقل إذا لم تحرسه الرحمة صار جلادًا، وأن المعرفة إذا لم ترافقها المحبة تصبح سلاحًا في يد من يجيد التصويب نحو القلب.

أكتب إليك الآن من مقهى صغير يطل على ساحة فقدت أسماءها. كل الوجوه هنا شاحبة، كأنها نسيت كيف تبتسم. لا موسيقى، لا رائحة قهوة تسبق الفنجان، لا طفل يركض خلف طائر. فقط خطوات بطيئة وحوارات مقتضبة وكلمات تتساقط قبل أن تصل إلى المعنى.

لقد علمتَنا يا طاغور أن "شرارة واحدة تكفي لتشعل الظلام"، لكنهم الآن يطاردون حتى الشرارة، يطوقونها بالأسلاك، يضعونها في قفص زجاجي، ويكتبون عليه: ممنوع الاقتراب، خطر الاشتعال. كيف نشعل ظلامًا تحرسه القوانين؟ كيف نمنح الحياة لمدينة أُقنع سكانها أن العتمة أمان؟

ربما تضحك من هذه الرسالة، أو تبكي، أو تضعها في درجك إلى جوار رسائل أخرى من مدن انهزمت أمام الليل. لكنني أكتبها لأنني لا أريد أن أصمت، ولأنني أريد أن يبقى هناك شاهد على أن النور كان هنا ذات يوم، وأنه لم يمت بموته، بل بمقتلنا نحن حين توقفنا عن البحث عنه.

يا طاغور، إن المدينة المريمية اليوم، رغم كل ما مرّ بها، ما زالت لوحة رسمها فنان عنيد، يغمس فرشاته في ضوء الفجر، ويصرّ أن يترك على الجدران أثرًا لا يمحوه الليل. شوارعها تحفظ وقع خطوات الأحرار، وجدرانها تتنفس حكايات الصمود. هنا، لا ينكسر الحلم، بل يتقوّى تحت الضربات، ولا تنطفئ الشرارة، بل تتوهج كلما حاولوا خنقها. المدينة المريمية ليست أسيرة للظلام، بل حارسة للنور، تحفظه في صدور أهلها كما تحفظ الأم قلبها في صدرها.

ومع ذلك، يا طاغور، لا تصدّق أن المقصلة قادرة على قتل النور إلى الأبد.
النور يعرف ألف طريق للعودة، وألف حيلة للتسلل من بين ثقوب الجدران.
قد يختبئ في عين طفل لا يعرف الخوف، أو في أغنية عابرة يرددها بائع جوّال، أو في كلمة تكتبها يد مجهولة على جدار متهالك.
نعم، هم يطاردون الشرارة، لكن الشرارة لا تحتاج إذنًا لتولد، ولا سلطانًا لتحيا.
سنظل نحملها سرًّا في صدورنا، نطعمها أنفاسنا حتى تكبر، وعندما يجيء الفجر — وسيجيء — سيكتشفون أن كل ما فعلوه كان مجرد إطالة للّيل، لا أكثر.