آخر تحديث للموقع : السبت - 23 أغسطس 2025 - 11:16 م

كتابات


مقام الكبار في حضرة السرّ

الإثنين - 18 أغسطس 2025 - 10:41 م بتوقيت عدن

مقام الكبار في حضرة السرّ

نبا نيوز /د. مريم العفيف


إلى توفيق العزيز، من مريميات المدينة المريمية،

سلامٌ عليك في مقامك حيث أنت، وسلامٌ على الأرواح التي حملت أثقالها في صمت، لتصبح شاهدة على معنى العظمة الخفية، تلك التي لا تُقاس بالضجيج ولا تُرى في المظاهر، بل تتجلّى في سكينة القلب، وهو ينهض رغم الانكسارات.

لقد جرتنا المواقف، وساقتنا التفاصيل، حتى ظننا أحيانًا أننا عاجزون عن مواصلة الطريق. لكن الحقيقة، كما قال توفيق، تكشف لنا عمق الدرس:

"أود أن أبكي وأرتجف والتصق بأحد الكبار، ولكن الحقيقة القاسية هي أنني أحد الكبار!"

هذه العبارة، ببساطتها وقسوتها، تحمل كل معنى مقام الكبار. فهي تكشف التناقض الذي يعيشه من بلغ هذا المقام: الرغبة الإنسانية في الانكسار والبحث عن السند، مقابل المسؤولية الكبرى بأن يكون المرء نفسه سندًا للآخرين. هنا يظهر البعد النفسي العميق: الكبار يشعرون بالضعف، يرتجفون أحيانًا، ويحتاجون إلى حضن يخفف من آلامهم، لكنهم يعلمون أن ضعفهم لا يمكن أن يكون عبئًا على من يعتمد عليهم.

من منظور فلسفي، الجملة تفتح نافذة على فهم الإنسان بوصفه كائنًا مزدوج الطبيعة: هش وضعيف، وفي الوقت ذاته قادر على العظمة والصبر. الكبار ليسوا خالين من المشاعر، بل عظماء لأنهم يختارون تحويل تلك المشاعر إلى قوة، إلى وعي، إلى فعل يمكّن الآخرين. وهنا يكمن سر الوقوف: ليس في غياب الرجفة، بل في القدرة على مواجهة الانكسارات الداخلية دون أن تزلزل من حولهم.

من زاوية أدبية، توفيق يمنحنا صورة شاعرية للحقيقة الإنسانية: القلب الذي يحنّ، العين التي تبكي، واليد التي تثبت الآخرين رغم الألم. إن هذا التناقض الجميل هو ما يجعل مقام الكبار مقامًا استثنائيًا، حيث تصبح المعاناة أداة للنضج، والانكسار حافزًا للارتقاء.

حتى من الناحية الطبية والنفسية، يعكس هذا الاقتباس مفهوم المرونة النفسية: القدرة على الاحتفاظ بالوظائف الأساسية للوعي والإرادة في مواجهة الضغوط الداخلية والخارجية، وتحويل الهشاشة إلى طاقة بنّاءة. الكبار يعرفون متى يواجهون ضعفهم بصمت، ومتى يسمحون لدموعهم بالانسياب لتطهّر الروح وتمنحهم قدرة على الاستمرار.

الناس ينظرون إلى الكبار كما ينظرون إلى جبلٍ شامخ: يظنونه بلا شروخ، لكن الجبال تعرف الانهيارات والصخور المتساقطة، ومع ذلك تبقى شاهقة، تحتضن السماء. هكذا الكبار، عظمتهم لا تكمن في خلوهم من الضعف، بل في استمرارهم في الوقوف رغم ذلك.

في داخلنا جميعًا طفل يتوق إلى الأمان، لكن الفارق بين الصغار والكبار أن الصغار يبحثون عنه في الآخرين، بينما الكبار يصنعونه من صبرهم وحكمتهم وصلابتهم، حتى وإن ظلوا يحنّون إلى دفءٍ غائب. هذه هي المسؤولية التي ارتقينا إليها، ليس لأنها خُيّرت لنا، بل لأن الحياة اختارتها لنا.

أصعب ما في مقام الكبار أنه لا يمنحك رفاهية الانهيار. عليك أن تكون الصخرة التي يتكئ عليها الجميع، حتى وأنت تنزف في صمت. لكنه في الوقت ذاته يعلمنا أعظم الدروس: أن القوة فعل يومي في الروح، وأن الصلابة لا تعني غياب الرجفة، بل القدرة على كبحها حتى لا تزلزل الآخرين.

القوة ليست أن نكبت دموعنا إلى الأبد، بل أن نعرف متى نسمح لها بالانسياب، لا لتغرقنا، بل لتطهّرنا. الهشاشة لا تُلغي القوة، بل تُعمّقها، لأنها تُذكّرنا بأننا بشر ولسنا أصنامًا.

أكتب إليك، يا صديقي، لا لأستجدي عزاءً ولا لأُسجّل ضعفًا، بل لأعلن شهادة ميلاد جديدة لفهمٍ مختلف: مقام الكبار لا يُقاس بكمية ما أخفوه من دموع، بل بكمية ما وزّعوه من نور. الكبار ينهضون بغيرهم وهم يتألمون، ويسندون الآخرين فيما هم يبحثون عن سندٍ في صمت.

الكبار هم الذين علّمهم الله أن يربطوا على قلوبهم، الذين يدركون أن المعونة لا تأتي من البشر، بل من العليّ الذي يقوّيهم كلما كادوا يسقطون. نحن كبار، ليس بأعمارنا أو تجاربنا وحدها، بل بقدر ما اتسعت قلوبنا لتحتمل الآخرين.

فامضِ مطمئنًا، يا عزيزي، فمكانك بين أولئك الذين يضيئون الطريق. إنك لست وحدك؛ كل من سبقتهم الحياة إلى امتحاناتها أدركوا أن العظمة الحقيقية ليست في التحرّر من الألم، بل في تحويله إلى وعي يوقظ الآخرين.

 و من مريميات المدينة المريمية سلامٌ عليك، وعلى قلبك الذي اختبر الحقيقة، وعلى روحك التي اختارت أن تكون جبلًا واقفًا مهما تعرّض للرياح.

"من عرف سرّ الرجفة عرف سرّ الوقوف، وإنما الكبار مآذن من نور تهتزّ في الريح ولا تسقط. سلام عليهم إذ يكونون سرّ الله في الأرض."