آخر تحديث للموقع : السبت - 23 أغسطس 2025 - 11:16 م

كتابات


ما لا يكتبه التقرير يشخصه نص درويش

الإثنين - 18 أغسطس 2025 - 10:36 م بتوقيت عدن

ما لا يكتبه التقرير يشخصه نص درويش

نبا نيوز /د. مريم العفيف


هناك حكاية لا تكتبها التحاليل، ولا تشهد عليها أجهزة الفحص. تبدأ بإنسان جلس أمام طبيب، بينما جلس الطبيب أمام أوراق وتقارير، يحدّق فيها كما لو كانت مرايا الحقيقة. الأوراق نظيفة، الأرقام مستقيمة، التحاليل مطمئنة. الجسد يبدو في تمام عافيته: لا كسور، لا رضوض، لا نزيف، لا ما يستحق القلق.

لكن الملامح، هذه اللغة الصامتة، تقول شيئًا آخر. كان الصمت بين المريض والطبيب أكثر بلاغة من أي كلمات. الوجه مُنهك، العينان مثقلتان بظلّ لا يراه الطب، والقلب ينبض بنبضٍ لا تلتقطه الأجهزة.

توقف الطبيب لحظة، ثم رفع رأسه بدهشة حقيقية، كأنه أمام معجزة معكوسة:
"كيف يمكن أن يتألم إنسان بهذا العمق، بينما جسده سليم؟! هذه حالة غير طبيعية… لا تفسير لها."

ارتبك المنطق. العلم الذي يشرح كل شيء وقف عاجزًا هنا. يعرف كيف يُحصي الكريات الحمراء، لكنه لا يعرف كيف يقيس خيبة الأمل. يعرف كيف يسجّل كهرباء القلب، لكنه لا يعرف كيف يلتقط ارتعاشة الحنين، أو جرح الذاكرة، أو رضوض المشاعر.

في تلك اللحظة، انزلق المريض في صمت عميق، مع نفسه:
"لماذا أشعر بهذا الانكسار رغم أن كل شيء يبدو طبيعيًا؟ هل يعقل أن يكون الألم بلا سبب، أو أن يكون السبب خفيًا في أعماق الروح؟"

كانت الذكريات تتوالى: وعود رحلت بلا أثر، خيانات لم تُرى، وفقدان لا يجد له تفسيرًا سوى الصمت. قلبه كان يهمس بهمسات حائرة:
"أنا بخير… لكن ماذا يعني أن أكون بخير بينما داخلي محطم؟"

ارتفعت في الذهن كلمات محمود درويش، كأنها معلقة في الهواء:
"أنا بخير… رضوض في المشاعر، وكسر في الخاطر، وبعض خدوش على الذاكرة، يقول الطبيب لا شيء مميت، خلع في الروح فقط."

كانت الجملة مثل مرآة ومرجع، كتشخيص وحيد ممكن أن يفهمه الإنسان العاقل. توقّف الطبيب عن الكلام. لم يعد للتقرير جدوى، إذ أن ما كُتب على الورق لا يعكس ما يحدث في الروح.

هنا، تتضح المفارقة: الجسد ينجو، لكن الروح تنهار. الجسد قائم كجدار صامت، بينما الداخل ركام من الخيبات والخذلان. أي علم يفسر أن العهود حين تُرمى تُخلّف كسورًا أعمق من كسور العظام؟ أي جهاز يرصد أن الحزن يُسمع دون صوت، يُرى دون صورة، ويترك خدوشًا على الذاكرة؟

المريض جلس، يتأمل نفسه، ويسأل:
"هل يمكن للإنسان أن يشفى من كسر في الروح؟ أم أن الجرح هنا دائم، مجرد صفحة مغلقة من حياة لم تكتمل؟"

فهم الطبيب، ولو بصمت، أن هناك مساحة لا يصل إليها الطب. أن الإنسان ليس مجرد جسد، وأن كل تقرير، مهما كان دقيقًا، يظل ناقصًا لأنه لا يكتب ما يحدث للقلب.

الحكاية إذن ليست عن طب، بل عن حدود الطب. ليست عن مرض، بل عن ما لا يمكن تسميته مرضًا. إنها عن تلك المسافة بين ما يقوله التقرير وما يقوله الصمت، عن الفرق بين ما تراه العين وما يشعر به الداخل.

في هذه المسافة، يتكشف معنى كسر الخاطر. قلب يتشقق بصمت، وروح تُصاب بخلع كامل، فلا يبقى للإنسان إلا أن يتنفس ليثبت أنه ما زال حيًا.

والمريض، في عزلته، بدأ يسرد لنفسه حوارات قديمة: "هل كنت أصدق حين أحببت؟ هل كانت الكلمات صادقة، أم مجرد وهم؟" وبدأ يتذكر كل الفرص الضائعة، وكل الأيادي التي لم تمتد، وكل العهود التي كسرت مثل زجاج رقيق.

إنها الحكاية التي تؤكد أن القلب ليس ورقة، والإنسان ليس رقمًا، وأن الروح حين تُجرح تغيّر حياة بأكملها دون أن يراها أحد.

ظلّت كلمات درويش تحوم في الغرفة، كتشخيص لا يُكتَب، بل يُستحضر:
"أنا بخير… رضوض في المشاعر، وكسر في الخاطر، وبعض خدوش على الذاكرة… يقول الطبيب لا شيء مميت، خلع في الروح فقط."

وحدها هذه العبارة استطاعت أن تفسر ما لم يفسره العلم. وحدها كشفت أن ما يميت الإنسان ليس دائمًا ما يُرى، بل ما يُعاش في الداخل بلا شاهد.

وهكذا انتهت الحكاية بلا علاج، لكنها تركت أثرًا أبقى من العلاج: إدراكٌ بأن الحياة أكبر من الطب، وأن الروح أعمق من أي تقرير، وأن ما لا يكتبه التقرير هو بالضبط ما يجعلنا بشرًا.