آخر تحديث للموقع : الخميس - 18 سبتمبر 2025 - 09:40 م
الشاعر عصام النمر ..وبلاد الزركنيش
السبت - 05 يوليو 2025 - الساعة 02:21 ص
الشعر ليس وثيقة جغرافية بقدر ما هو تعبير وجداني، تتسع فيه الرموز والمجازات لتخدم المعنى والعاطفة.
ففي عالم الشعر والغناء، لا تُقاس القيمة بمدى دقة الإحداثيات أو مطابقة الأسماء للواقع الجغرافي، بل بجمال الصورة، ورشاقة المعنى، وصدق الإحساس. ولذلك يلجأ الشعراء ــ منذ أقدم العصور ــ إلى توظيف مسميات لمدن أو بلدان خيالية، لا وجود لها على خرائط الجغرافيا، لكنها حاضرة بقوة في خرائط الخيال والذائقة الفنية.
ومن هذا المنطلق، لا أجد مبررًا لحملة الانتقادات التي طالت الشاعر المبدع عصام النمر، في وسائل التواصل من قبل البعض، على خلفية غنائيته الجديدة "طير أمريش"، والتي غنّاها الفنان عمر ياسين، وذلك فقط لاستخدامه اسمًا لمكان لا يُعرف له موقع واقعي.
فهذا الأسلوب ليس غريبًا على الشعراء، بل هو تقليد قديم ومعروف، شائع في القصائد الشعبية والغنائية، وقد استخدمه شعراء كبار دون اعتراض أو استنكار. فهل نعرف مثلاً أين تقع "بلاد واق الواق" التي ورد ذكرها في في أكثر من مصدر؟ أو بعض مدن وبلدان تغنّى بها يحيى عمر اليافعي في كثير من أشعاره؟.
فمثل هذه المسميات رموز تعبّر عن حالات وجدانية أو معانٍ مجازية، لا تُراد بها الحقيقة الجغرافية، بل الحقيقة الشعرية التي تستدعي المكان بوصفه دلالة لا موقعًا.
وختاماً أقول:
الشاعر لا يرسم خريطةً لدروب السفر، بل خريطةً للقلوب. وإن اتسعت القصيدة لمكانٍ لم نسمع به من قبل، فذلك لأن الخيال أوسع من الجغرافيا، والقصيدة تسافر حيث لا تصل الخرائط.
وما فعله الشاعر عصام النمر ليس غريبًا ولا طارئًا، بل هو امتداد طبيعي لتراث شعري عربي طويل استوعب الخيال، وشرّع له أبواب الشعر والغناء منذ القدم، وظل الشعراء يرسمون بعواطفهم جغرافيا لا تقيّدها الخرائط، بل يُراد منها أن تلامس القلوب.
ومسك الختام أمثلة من غنائيات يحيى عمر اليافعي، التي استخدم فيها مسميات رمزية أو خيالية أو مجهولة الموقع، في سياق شعري وجداني أو غزلي أو فني. تُعبّر عن أماكن حالمة، أو عوالم شعورية، أو رموز للبعد والمسافة، أو سعة الخيال. مثل قوله:
وطابت ليالي السّعد والبدر أبهجا
وأشجى شجون الشوق من قلبي الشَّجي
فلو خيروني فيه ألفين مُسْرَجا
وصنعاء مدينة سام لا أرض مَدحَجِي
وكُوشي إلى مُنبي ودلّي وبَرْوَجَا
وأرض اليمن والروم وأرض الخزارجي
وَقُمره وشام الشام لا بحر زَحرَجا
وَشِيْنِه وكَنبَايَه بلاد الكَلالجي
فهل كل هذه المسميات من البلدان صحيحية، أم من نسج خيال الشاعر. ومن ذلك قوله (بلاد الأندلون):
يقول أبو معجب حَرام النوم يُحْرَمْ عالعيون
فارقني المضنون وانْزَادَتْ لَهيبي والشجون
وَين انْصَرَفْ وين انْطَرَفْ ظبي الخلا فَنْ الفنون
هُوْ بالخَلا أو بالفلا أو في بلاد الأندَلون
أو ذكره بلاد يعمور؟!.. كما في قوله:
خُذ مركب الهند (كنَّنُّور)
وما جُلب في المَخَا سدّك
وما تشا من بلد (يَعْمُور)
مِنْ التفاريق ما حَدَّكْ